فصل: (فرع: رفع دعوى على وكيل حاضر والأصيل غائب)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: الإشهاد عند الإيداع]

وإن وكله: أن يودع ماله عند غيره.. فهل يجب على الوكيل الإشهاد على الدفع للمودع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه، كما قلنا في قضاء الدين.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه لا فائدة في الإشهاد؛ لأن القول قول المودع في التلف والرد.
فإن ادعى الوكيل أنه قد دفع الوديعة إلى المودع، فأنكر المودع.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإيداع، ولا يقبل قول الوكيل عليه؛ لأنه لم يأتمنه، فإذا حلف المودع.. انقطعت الخصومة عنه، وتبقى الخصومة بين الموكل والوكيل.
فإن كان الوكيل قد أشهد على الإيداع، أو اعترف له الموكل بذلك.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير مفرط، وإن لم يشهد على الإيداع، فإن كان قد دفع الوديعة بغيبة الموكل، فإن قلنا: يلزمه الإشهاد على الدفع.. لزمه الضمان؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، وإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه، وإن كان قد دفع الوديعة بحضرة الموكل من غير إشهاد، فإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه وإن قلنا: يلزمه الإشهاد فهل يلزمه الضمان هاهنا؟ فيه وجهان، كما قلنا في قضاء الدين.

.[مسألة: إدعاء الوكالة تثبت مع الشاهدين]

إذا كان عند رجل لآخر حق، إما عين في يده، أو دين في ذمته، فجاء رجل إلى من عليه الحق، فقال: قد وكلني فلان بقبض حقه منك، وأقام الوكيل على ذلك شاهدين.. ثبتت وكالته، واستحق المطالبة، فإن قال من عليه الحق: كذب الشاهدان، والوكيل يعلم أنهما شهدا علي بالزور، فإن حلفه: أنه لا يعلم ذلك.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن هذا طعن على البينة العادلة.
فإن قال: قد قبض الموكل حقه، أو أبرأني منه.. لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإن ادعى أن الوكيل يعلم ذلك وطلب يمينه.. حلف الوكيل: أنه لا يعلم ذلك؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، فإن قال للوكيل: أخر القبض حتى يحضر الموكل.. لم يلزمه التأخير؛ لأنه قد ثبت له تعجيل القبض، فلا يلزمه تأخيره فإذا قبض الوكيل الحق، ثم حضر الموكل، وطالبه.. كان لمن عليه الحق أن يستحلف الموكل أنه ما قبض الحق، ولا أبرأه منه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن أقر بالقبض، أو نكل وحلف من عليه الحق.. استرجع ما قبضه الوكيل، فإن قال من عليه الحق للموكل: احلف: أن شهودك شهدوا بحق علي.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن في ذلك طعنا على البينة.
وإن لم يقم البينة على وكالته.. نظرت فيمن عليه الحق:
فإن صدق الوكيل فيما ادعى.. جاز له الدفع إليه، ولا يجب عليه.
وقال المزني: يجب عليه الدفع إليه.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الحق دينا.. وجب عليه دفعه إليه، وإن كان عينا ـ فعنه روايتان، أشهرهما ـ: أنه لا يجب عليه الدفع إليه).
دليلنا: أن إقراره بالوكالة لا يتضمن براءته بدفعه إليه، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان الحق عينا، ولأنه دفع لا يبرأ به من عليه الحق إذا أنكر الموكل الوكالة، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان عليه دين بشهادة، فطولب به من غير إشهاد.
إذا ثبت هذا: فإن دفع من عليه الحق إلى الوكيل، ثم حضر الموكل، فإن صدقه على الوكالة.. فقد برئ الدافع، وصح القبض، وإن أنكر الوكالة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة، فإذا حلف.. نظرت:
فإن كان الحق عينا، فإن كانت قائمة.. كان له أن يطالب بها من شاء من الدافع والقابض؛ لأن الدافع دفع ما لم يكن له دفعه، والقابض قبض ما ليس له قبضه. فإذا طالب الدافع.. كان للدافع أن يطالب القابض بردها إليه. وإن كانت العين تالفة.. كان له أن يطالب بقيمتها من شاء منهما، كما لو كانت قائمة، فإذا رجع على أحدهما بقيمتهما.. لم يكن للمرجوع عليه أن يرجع على الآخر؛ لأن كل واحد منهما يقول ظلمني الموكل برجوعه علي، فلا يكون له الرجوع على غير من ظلمه.
قال ابن الصباغ: وإن أتلفها القابض، أو تلفت عنده بتفريط، فرجع الموكل على الدافع.. فينبغي أن يرجع الدافع على القابض؛ لأنه وإن كان يقر أنه قبضه قبضا صحيحا، وأن الضمان على القابض للموكل دونه.. فإنه يقول: ظلمني بالرجوع علي، ولكن له قيمة العين على القابض، فكان له أخذ حقه الذي ظلمه به من الذي يملكه على الوكيل.
فإن كان الحق دينا.. فلمن له الحق أن يرجع بدينه على الدافع، وجها واحدا؛ لأن الحق له ثابت في ذمته، وهل له أن يرجع على القابض؟ فيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: له أن يرجع عليه؛ لأنه مقر بأنه قد قبض الحق له.
والثاني: قال عامة أصحابنا: ليس له الرجوع عليه، وهو الصحيح؛ لأن حق صاحب الدين في ذمة من عليه الدين لم يتعين في المقبوض.
فإن قلنا بقول أبي إسحاق، وقبض من له الدين الحق من الوكيل.. برئ الدافع والوكيل.
وإن قلنا: لا يجوز له الرجوع عليه، أو قلنا: يجوز، واختار الرجوع على من عليه الحق، فإن كان المال باقيا في يد الوكيل.. فلمن عليه الدين أن يرجع به على الوكيل؛ لأن من عليه الدين يقول: قد ظلمني برجوعه علي، ولكن هذا المال له، فلي أخذه بما ظلمني. وإن كان المال قد تلف في يد الوكيل بغير تفريط.. لم يرجع الدافع على الوكيل لأنه مقر بأنه أمين تلف المال في يده بغير تفريط وإن أتلفه الوكيل، أو فرط في تلفه.. قال ابن الصباغ: فللدافع أن يرجع عليه؛ لأنه ظلمه بالخروج. وهو يستحق في ذمة الوكيل قدر ما أتلفه، فكان له أخذه بدلا عما ظلمه به.
وإن لم يصدق من عليه الدين الوكيل في الوكالة.. فالقول قوله من غير يمين.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجب عليه أن يحلف). وقد مضى الدليل عليهما.
قال ابن الصباغ: الذي يجيء على أصلنا: أنه لا تسمع دعوى الوكيل على من عليه الدين؛ لأن الوكيل في الخصومة لا يصح أن يدعي قبل ثبوت وكالته.

.[فرع: ثبوت دعوى الوكالة بشاهدين]

إذا ادعى الوكالة، وأقام شاهدين ذكرين.. ثبتت وكالته، وإن أقام شاهدا وامرأتين، أو شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو أربع نسوة.. لم تثبت وكالته بذلك؛ لأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ومما يطلع عليه الرجال، فإن شهد له رجل: أنه وكله، وشهد الآخر: أنه وكله، ثم عزله.. لم تثبت وكالته؛ لأنه لم يبق معه إلا شاهدا؛ لأن الآخر لم يثبت وكالته في الحال.
وإن شهدا له بالوكالة، فحكم الحاكم بوكالته، ثم قال أحدهما: قد عزله، أو كان قد عزله.. لم يحكم ببطلان الوكالة؛ لأنه إن كان ذلك رجوعا عن الشهادة.. لم يقبل؛ لأن الرجوع عن الشهادة بعد الحكم لا يقبل، وإن كان ذلك ابتداء شهادة بالعزل بعد الوكالة.. لم يقبل؛ لأن العزل لا يثبت بشهادة واحد، وإن قالا: عزله بعد الحكم، فإن كان ذلك رجوعا.. لم يقبلا، وإن كان ابتداء شهادة بالعزل.. قبلت شهادتهما؛ لأن العزل يثبت بشاهدين.
وإن شهدا له بالوكالة، ثم قال أحدهما ـ قبل الحكم بثبوت الوكالة ـ: قد عزله، أو كان قد عزله.. ففيه وجهان:
أحدهما: يحكم بثبوت الوكالة؛ لأن هذا ليس برجوع، وإنما هو إثبات للعزل، والعزل لا يثبت بواحد.
والثاني: لا يحكم بها، وهو الصحيح؛ لأنه لم يقم على شهادته إلى أن يقضي الحاكم بصحة الوكالة، فهو كما لو ذكر العزل مضافا إلى الشهادة.
وإن شهد أحدهما: أنه وكله يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه يوم الجمعة، أو شهد أحدهما: أنه وكله بالعربية، وشهد الآخر أنه وكله بالفارسية.. لم تثبت الوكالة؛ لأنها شهادة على فعلين.. وإن شهد أحدهما: أنه أقر يوم الخميس أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر يوم الجمعة أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر بالعربية أنه وكله، وشهد الآخر على إقراره بالفارسية أنه وكله ثبتت الوكالة؛ لأن الإقرارين إخباران عن عقد واحد.
وإن شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أذنت لك في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه قال له جعلتك وكيلا، وشهد الآخر: أنه قال: جعلتك جريا، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيله، وشهد الآخر: أنه جعله وصيه، أو شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أوصيت إليك في حال الحياة.. لم تثبت الوكالة في هذه المسائل كلها؛ لأنهما شهادتان على فعلين.
وإن شهد أحدهما.. أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أذن له في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيلا، وشهد الآخر: أنه جعله متصرفا.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل، وإنما عبرا عن التوكيل بلفظهما، واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه، وهكذا لو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه أوصى إليه في حال الحياة.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما إخباران عن عقد.

.[فرع: ادعى الوكالة وشهد له بها]

وإن ادعى الوكالة وشهد له بها شاهدان، أحدهما ابن الآخر.. قبلت شهادتهما؛ لأن القرابة تمنع إذا كانت بين الشاهد والمشهود له، فأما إذا كانت بين الشاهدين.. فلا تؤثر.
وإن شهد بالوكالة ابنا الوكيل، أو أبواه، أو أبوه وابنه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يثبتان له التصرف، فلم يقبلا، كما لو شهدا له بمال، وإن شهد له بالوكالة أبو الموكل، أو ابناه.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنهما لا يقبلان؛ لأنهما يثبتان بذلك التصرف عن الموكل، فهي شهادة له.
قال ابن الصباغ: وفيه نظر؛ لأن هذه الوكالة ثبتت بقول الموكل، ويستحق الوكيل بذلك المطالبة بالحق، وما يثبت بقوله.. يثبت بشهادة قرابته عليه، كالإقرار، فأما إذا ادعى الوكالة، فأنكر الموكل، فشهد عليه ابناه، أو أبواه.. ثبتت الوكالة، وأمضى تصرفه؛ لأن ذلك شهادة عليه، وهكذا: إذا أنكر من عليه الحق وكالة الوكيل، فشهد بها ابنا من عليه الحق، أو أبواه.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان عليه.

.[فرع: شهادة الابنين بعزل وكيل الأب]

وإذا ثبتت وكالة رجل بالبينة بقبض حق عليه غيره، ثم جاء ابنا الموكل، فشهدا: أن أباهما قد عزل الوكيل، فإن صدقهما الوكيل.. انعزل، ولم ينفذ تصرفه؛ لأنه اعترف بعزل نفسه، وإن كذبهما.. قيل لمن عليه الحق: أتدعي العزل؟ فإن قال: نعم.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما، وإن لم يدع العزل..لم تبطل الوكالة. وكان له قبض الحق، فإن حضر الموكل، وادعى العزل، وشهد له ابناه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما.

.[فرع: رفع دعوى على وكيل حاضر والأصيل غائب]

وإن ادعى على رجل غائب مالا في يد وكيل له حاضر، وأقام عليه البينة، وحلفه الحاكم، ثم حضر الغائب، وأنكر الوكالة، وادعى العزل قبل الدعوى، وأقام على ذلك بينة.. لم يؤثر ذلك في الحكم؛ لأن الحكم على الغائب لا يفتقر عندنا إلى حضور الوكيل.
وإن حضر رجل عند الحاكم، فوكل عنده رجلا في خصوماته، فإن كان الموكل حاضرا.. لم يفتقر إلى معرفة اسمه ونسبه، وإن غاب الموكل، فإن كان الحاكم يعرف الموكل باسمه ونسبه.. صح للوكيل أن يخاصم، وإن كان لا يعرف اسمه ونسبه.. لم تصح خصومة الوكيل، إلا أن يقر الخصم أن الذي وكله هو فلان بن فلان؛ لأن الحق عليه.

.[فرع: شهادة رجلين أن فلانا وكيل لغائب]

إذا شهد رجلان: بأن فلانا الغائب وكل عمرا في كذا، فإن قال عمرو: صدقا.. ثبتت وكالته، وإن قال عمرو: أنا لا أعلم أنه وكلني، ولكن أنا أطالب بالحق.. صحت وكالته؛ لأن وكالته ثبتت بالبينة، وقوله: (لا أعلم) أي: أني ما سمعت، وقوله: (أنا أطالب) قبول للوكالة، وإن قال: لا أدري أنه وكلني، أو لا أعلم وسكت.. قال أبو العباس: قيل له: قد شهد لك بالوكالة اثنان، أتصدقهما، أم تكذبهما؟ فإن صدقهما.. ثبتت وكالته، وإن كذبهما.. لم تثبت وكالته.
وإن شهد رجل: أن زيدا وكل عمرا ببيع هذا العبد، وشهد آخر: أنه وكله وخالدا ببيعه.. لم تثبت وكالة واحد منهما؛ لأن أحدهما شهد لعمرو بالتصرف منفردا، وشهد له الآخر بالتصرف مع غيره، فلا يتصرف بنفسه؛ لما ذكرناه، ولا يتصرف مع خالد؛ لأنه لم يشهد لهما غير واحد. وإن شهد له شاهد: أنه وكله في بيع هذا العبد، وشهد الآخر: أنه وكله في بيع هذا العبد وهذه الجارية.. ثبتت وكالته في العبد؛ لأنهما اتفقا عليها، ولا تثبت في الجارية؛ لأنه لم يشهد بها غير واحد.
وإن شهد أحدهما: أنه وكله في بيع عبده، وأطلق، وشهد الآخر: أنه وكله في بيعه، وقال: لا تبعه حتى تستأمرني.. لم تثبت وكالته في بيعه؛ لأنها شهادة مختلفة.

.[فرع: ادعاء رجل على مدين موت صاحب الحق وأنه وارثه]

إذا كان على رجل دين لآخر، أو عين في يده، فجاء آخر، وقال: قد مات صاحب الحق، وأنا وارثه، لا وارث له غيري، فإن صدقه من عليه الحق.. لزمه الدفع إليه؛ لأنه اعترف له بملك الحق، وإن كذبه، وأقام المدعي بينة.. حكم له بذلك، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من عليه الحق مع يمينه؛ لأن الأصل
بقاء من له الحق، فيحلف: أنه لا يعلم أن صاحب الحق قد مات، أو لا يعلم أنه لا وارث له سواه؛ لأنه يمين على نفي فعل غيره.
وإن جاء إلى من عليه الحق والدين لغيره، وقال قد أحالني صاحب الحق عليك، فإن صدقه من عليه الدين.. فهل يلزمه الدفع إليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه قد اعترف له بملك الدين، فصار كما لو اعترف أن صاحب الحق مات، وأن هذا وارثه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه وإن صدقه.. فإن هذا الدفع لا يبرأ به؛ لأنه ربما أنكر من له الحق الحوالة وحلف، فصار كما لو صدقه أنه وكيله في القبض.
وإن كذبه من عليه الحق، فإن أقام المحتال بينة.. حكم له بالحق، ولزم المحال عليه الدفع إذا قلنا: إن رضا المحال عليه ليس بشرط، وإن لم تكن بينة.. فهل تلزمه اليمين؟
إن قلنا: لو صدقه لزمه الدفع إليه.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيصدقه.
وإن قلنا: لا يلزمه الدفع، وإن صدقه.. لا تلزمه اليمين؛ لأنه لو صدقه.. لم يلزمه الدفع، فلا فائدة في اليمين.

.[مسألة: فسخ الوكالة]

وإذا وكل غيره في تصرف.. كان لكل واحد منهما أن يفسخ الوكالة؛ لأنه إذن في التصرف، فجاز لكل واحد منهما إبطاله، كالإذن في أكل طعامه.
إذا ثبت هذا: فالعقود على أربعة أضرب:
أحدها ضرب لازم من الطرفين: كالبيع، والصرف: والسلم، والإجارة، والخلع، وفي النكاح وجهان:
أشهرهما: أنه لازم من الطرفين.
والثاني: أنه لازم من جهة الزوجة، جائز من جهة الزوج؛ لأنه يملك رفعه.
والأول أصح؛ لأنه لا يملك فسحة، وإنما يملك قطعه وإزالة ملكه عنه، كما يملك الرجل عتق عبده.
والضرب الثاني: جائز من الطرفين، وهو الوكالة، والشركة، والقراض، والرهن قبل القبض، والجعالة، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ.
والضرب الثالث: لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، وهو الكتابة، والرهن بعد القبض.
والضرب الرابع: اختلف قول الشافعي فيه، وهو السبق، والرمي، على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
إذا ثبت هذا: فالفسخ أن يقول أحدهما: فسخت الوكالة، أو أبطلتها، أو نفضتها: أو يقول الموكل: عزلتك، أو صرفتك عنها، أو أزلتك عنها، أو يقول الوكيل: عزلت نفسي أو صرفتها عني، أو أزلتها.
وإذا عزل الوكيل نفسه عن الوكالة.. انعزل، سواء كان بحضور الموكل وعلمه، أو بغير حضوره وعلمه.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للوكيل أن يعزل نفسه إلا بحضور الموكل وعلمه، فأما بغير حضوره وعلمه.. فلا يجوز).
دليلنا: أنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغير، فلم يفتقر إلى حضور ذلك الغير، كالطلاق، ولأن الوكالة عقد جائز، فجاز لأحدهما فسخها بغير حضور الآخر، كالشركة، والقراض.
وأما الموكل إذا عزل الوكيل عن الوكالة، فإن عزله بحضرته أو بغيبته إلا أنه علم بالعزل قبل التصرف.. انعزل، ولم يصح تصرفه، وإن عزله ولم يعلم بعزله، فتصرف.. فهل ينعزل؟ فيه قولان، ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان:
أحدهما: لا ينعزل، ويصح تصرفه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تصرف الوكيل عن إذن، فلم ينقطع لمجرد المنع من غير علم بالمنع، كما إذا أمر الله تعالى بفعل شيء، ثم نهى عنه.
والثاني: ينعزل، فلا يصح تصرفه، وهو الصحيح؛ لأنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغائب، فلم يفتقر إلى علمه، كالطلاق، ولأن العزل معنى يفسخ الوكالة إذا علمه الوكيل، فوجب أن يفسخه وإن لم يعلمه الوكيل، كجنون الموكل.

.[فرع: انفساخ الوكالة بموت أحد طرفيها]

وإن وكله في تصرف، ثم ماتا أو أحدهما قبل التصرف، أو جنا أو أحدهما، أو أغمي عليهما أو على أحدهما. بطلت الوكالة؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من أهل التصرف، فبطلت الوكالة بذلك.
وإن حجر عليهما، أو على أحدهما للسفه. بطلت الوكالة فيما لا يصح تصرفه فيه مع السفه، كالبيع، والهبة، وغيرهما، ولا تبطل الوكالة فيما يملكه مع السفه، كالطلاق، والخلع، وطلب القصاص.
وإن كان الحجر للفلس. بطل توكيله في بيع أعيان ماله؛ لبطلان تصرفه فيه، وفي هبتها، ولم يبطل في التصرف في ذمته، ولا في الطلاق، والخلع، وطلب القصاص.
وإن فسقا أو أحدهما، فإن كان تصرفا يشترط فيه العدالة.. بطل، وإن كان لا يشترط فيه العدالة.. لم يبطل.

.[فرع: تعذر التصرف يبطل الوكالة]

وإن وكله في بيع عبد، ثم باعه الموكل، أو أعتقه، أو وكله في نقل زوجته فطلقها.. بطلت الوكالة لتعذر التصرف.

.[فرع: الردة لا تؤثر في الوكالة]

وإن وكل مسلم مسلما، ثم ارتد الوكيل.. لم تبطل وكالته، وكذلك إذا وكل المسلم مرتدا.. صحت وكالته، قولا واحدا؛ لأن ردته لا تؤثر في تصرفه، وإنما تؤثر في ماله.
فأما إذا ارتد الموكل: فهل يبطل توكليه؟ فيه ثلاثة أقوال، بناء على زوال ملكه بالردة.
أحدها: يزول ملكه، فتبطل وكالته.
والثاني: لا يزول ملكه، فلا تبطل وكالته.
والثالث: أن ملكه موقوف؛ فإن رجع إلى الإسلام.. لم يزل ملكه، فلا تبطل وكالته، وإن مات على الردة، أو قتل عليها.. زال ملكه بالردة، فبطلت وكالته، وهكذا إذا وكل المرتد مسلما.. فهل تصح وكالته؟ على هذه الأقوال الثلاثة.

.[فرع: الطلاق لا يبطل وكالة الزوجين لأحدهما]

وإذا وكل أحد الزوجين الآخر في البيع والشراء وما أشبههما... صح؛ لأنها نيابة، فصحت بين الزوجين، كالأجنبيين، فإن طلق الزوج زوجته.. لم تبطل الوكالة؛ لأن زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة، فلم يمنع استدامتها. فإن وكل السيد عبده بتصرف، ثم أعتقه، أو باعه..ففيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: لا ينعزل؛ كما لو وكل زوجته، ثم طلقها.
الثاني: ينعزل، لأن ذلك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو استخدام بحق الملك، فإذا زال الملك.. بطل الاستخدام، وإن أمر السيد عبده أن يتوكل لغيره، فتوكل له ثم أعتقه السيد، أو باعه.. فهل تبطل وكالته؟
من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالأولى.
ومنهم من قال: لا تبطل وجها واحدا؛ لأنه وإن كان من جهة السيد أمر، فهي وكالة في الحقيقة من جهة الموكل.
وإن قال السيد لعبده: إن شئت فتوكل له، وإن شئت فلا تتوكل له، فتوكل له، ثم أعتقه السيد، أو باعه.. لم تبطل الوكالة، وجها واحدا؛ لأن السيد لم يأمره، وإنما خيره، فصار ذلك وكالة في الحقيقة.

.[مسألة: ضمان الوكلاء ونحوهم]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا ضمان على الوكلاء، ولا على الأوصياء، ولا على المودعين، ولا المقارضين، إلا أن يتعدوا، فيضمنوا).
وجملة ذلك: أن الأيدي ثلاث: يد أمانة، ويد ضامنة، ويد اختلف قول الشافعي فيها.
فأما (يد الأمانة): فهي يد الحاكم، وأمين الحاكم، والوصي، والمرتهن، والوكيل، والمودع، والمقارض، والشريك، والمساقي، والمستأجر؛ لأنهم يمسكون العين لمنفعة مالكها، وبالناس إلى ذلك حاجة، فلو قلنا: إن عليهم الضمان.. لامتنع الناس من قبول ذلك.
وأما (اليد الضامنة): فيد المستعير، والغاصب، والمساوم، ومن أخذ الشيء ببيع فاسد.
وأما (اليد التي اختلف قول الشافعي فيها): فيد الأجير المشترك، ويأتي بيان ذلك في (الإجارة).
إذا ثبت هذا: فإن دفع إليه سلعة، ووكله في بيعها، وقبض ثمنها، فتلفت العين في يده، أو قبض ثمنها، فتلف في يده من غير تفريط.. لم يجب عليه الضمان؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، فكان الهالك في يده كالهالك في يد موكله.